المراحل الزمنية (التاريخية) التي مرت بها عملية تدوين النصوص الليتورجية القبطية

يشبّه العالم تافت التراث الليتورجى “التقليد الليتورجى” بثمرة البصل una cosa cipollata، فهى مكونة من طبقات متتالية متلاصقة شبيهة إلى حد كبير ببعضها البعض، فهى ثمرة حيّة تنمو، والتاريخ أو الزمن جزء رئيسى من تكوينها، ولكى نتذوق هذه الثمرة يجب علينا ألا نكتفى بالطبقة الخارجية، بل نتعمقها وندرس جوهرها، وبذلك نتذوق كل ثمرة التراث الليتورجى.

حيث أن الليتورجية القبطية قد مرت بعدة مراحل، وكل منها أثرت فيها بصورة أو بأخرى وتركت بصمتها عليها مدى الدهر. وهذا ليس شيئاً مُستغرباً أو فقراً يعيبها، فتاريخ العبادة كتاريخ الإنسان نفسه، له ماضي وحاضر (وربما مستقبل).

ومن هذا المنطلق علينا أن نستعرض المراحل الزمنية (التاريخية) التي مرت بها عملية تدوين النصوص الليتورجية القبطية:

المرحلة الأولى فهي تُشكل فترة تكوين اللبنة الأولى للطقوس الإسكندرية، مرحلة الإلهام الحر، (ما قبل مجمع نيقية ) القرون الثلاثة الأولي:

وهي المرحلة التي يُترك فيها النص الليتورجي مفتوحاً للأب الأسقف يعبر فيه ـ في حدود التقليد المسلّم ـ وبقدر إلهام الروح له ويمكننا أن نلاحظ هذا من خلال النصوص التي تصف لنا هذه المرحلة.

ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الآتي:

1- الديداخي: القرن الأول الميلادي ”ليشكر الأنبياء ما طاب لهم الشكر“(صلوات قربانية ۹:۷)

2- من خدمة يوم الأحد للشهيد يوستين القرن الثاني الميلادي (۱۵۰م)

“وبعد أن نفرغ من صلواتنا، يقدم الخبز والخمر والماء، والمترئس يقدم صلوات وشكراً على قدر ما يستطيع، والشعب يعبر عن موافقته بقوله آمين”.

3- من التقليد الرسولي لـ “هيبوليتس” القرن الثالث الميلادي (۲۱۵م)

“فليرفع الأسقف الشكر وفقاً لما جاء سابقاً، ولكن ليس حتما بنفس الكلمات. بل يجتهد في تلاوتها في قلبه عند تقديم الشكر لله. وليصل كل واحد حسب مقدرته. أما إذا صلى صلاة طويلة ونافعة للنفوس، فهذه الصلاة تكون صالحة. ولكن ليس ما يمنع من أن تُتلى صلاة دارجة بشرط أن تكون صحيحة ومطابقة للإيمان القويم”.

4- من تعاليم الرسل في قداس رسامة الأسقف، القرن الثالث الميلادي ( ۳۲۵م)

“وهكذا فليصل مقدم الكهنة على الذبيحة ويبتهل أن يحل الروح القدس عليهم وعلى الخبز ليصير جسد المسيح، والكأس ليصيره دماً للمسيح. وإذا كملت الصلوات التي يجب أن يقولها، ليتقرب الأسقف”.

المرحلة الثانية: مرحلة تدوين النص و تثبيته (ما بعد مجمع نيقية)

وهي المرحلة التي يلتزم فيها الأب الأسقف (الكاهن فيما بعد) بالنص الليتورجي المدون، على أن تُترك له حرية الاختيار بين النصوص المتعددة.

المرحلة الثالثة: مراحل نمو النص وتطوره:

( لما تستلزمه احتياجات الخدمة)، أو بسبب ظهور بدع وهرطقات مستحدثة، تستلزم صياغة جديدة أو إضافة للنص الليتورجي تقتضيه الحاجة.

مراحل نمو النص وتطوره في الليتورجية القبطية:

1-    فترة ظهور الهرطقات والمجامع المسكونية (من مجمع نيقية إلى المجمع الخلقدوني)

حيث استخدم العديد من مؤلفات الآباء كقطع في الصلوات الليتورجية والعبادة اليومية.

وهنا تتبين لنا أهمية النصوص الليتورجية فى حفظ العقيدة والإيمان الرسولي المستقيم.

2-    فترة ما بعد الإنشقاق الذي أصاب كنيسة الله الواحدة بسبب المجمع الخلقيدوني حتى دخول العرب مصر.

3-    فترة دخول العرب حتى القرن العاشر.

حيث انتقل مقر الكرسي الرسولي من الإسكندرية لعدة جهات بالوجه البحري قبل أن يستقر بمدينة القاهرة في نحو منتصف القرن الحادي عشر الميلادي في عصر البابا خرستوذولوس الـ 66، فحملت الأديرة البحرية دور الريادة وجاء معظم البابوات في هذه الفترة من رهبان وادي هبيب (وادي النطرون حالياً) دون سواها من الأديرة القبطية. ومن ثم انعكس هذا بصورة مباشرة على طقوسنا القبطية، فمع مرور الوقت صار الطقس القبطي طقساً مُطولاً تغلب فيه روح التأمل والتقشف، متأثراً بالحياة الرهبانية، وأصبح طقس رهباني أكثر منه احتفالي.

4-    مرحلة التحول للغة العربية في العبادة والكتابة الأدبية منذ القرن العاشر حتى القرن الرابع عشر.

حركة الترجمة إلى اللغة العربية ومحاولة تقنين الطقس القبطي على يد البابا غبريال الثاني الشهير بابن تُريك (الـ70) [1131-1145م]  والذي كان أول من صرح بإستخدام اللغة العربية في الصلاة لمن لا يفهم القبطية([1]( مما أدى إلي ظهور الأجروميات والسلالم) وتمتد هذه المرحلة إلى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي تقريباً.

حيث تتميز هذه الفترة بغزارة الإنتاج الأدبي وتنوعه في الكثير من العلوم الكنسية واللاهوتية، مع معالجة وتسجيل معظم طقوس الكنيسة وقتئذ، مما يُعد ثروة لنا اليوم، خصوصاً إذا عرفنا أن البعض منها (أي الطقوس) تبدلت الآن بسبب عوامل عدة سوف نعرض لها كلاً في حينه.

ومن بين هذه الموسوعات والقوانين الكنسية التى سجلت لنا الطقوس فى هذه الفترة الهامة:

“الجوهرة النفيسة في علوم الكنيسة” في القرن الثالث عشر، لصاحبها أبو زكريا يوحنا ابن سباع.

“مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة” في القرن الرابع عشر، لشمس الرئاسة أبو البركات ابن كبر، وهى موسوعة ليتورجية لم تنشر كاملة حتى اليوم.

قوانين البطاركة البابا خريستوذولوس (الـ ـ66) والبابا كيرلُّس الثَّاني (الـ ـ67) و غبريال الثاني الشهير بابن تُريك (الـ70) و كيرلُّس بن لقلق (الـ75) ومجموعات قوانين أولاد العسال…إلخ

5-    مرحلة سلسلة الاضطهادات المتصلة منذ عهد دولتي المماليك و حتى بداية الحكم العثماني (منذ القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر  ).

مما أسفر عن ذلك من هدم وتخريب عدد هائل من الكنائس والأديرة، وبالتالي حرق أو فقدان العديد من الكتب والمخطوطات سواء الطقسية أو سواها، مما جعل الكنيسة تعيد تجميع هويتها الطقسية من خلال مجموعة من العلماء والنساخ، مثل القمص إرميا الناسخ كاتب القلاية البطريركية في عهد البابا غبريال الخامس الـ88 (1409 ـ 1427م) الذي قام (أي القمص إرميا) بإعداد نظام طقسي لتوحيد العادات والتقاليد والطقوس في مصر نُسب فيما بعد للبابا المذكور. ومما هو جدير بالذكر هو أن هذه الطقوس معظمها لا يزال سائراً في الكنيسة القبطية حتى اليوم([2]).

6-    وأخيراً تأتي المرحلة التاريخية الأخيرة، وهي مرحلة التاريخ الحديث والمعاصر بداية من القرن الثامن عشر حتى الآن.

ومن أهم الملامح التي تتميز بها هذه المرحلة، علي النحو الآتي:

1-    طبع الكتب الطقسية بواسطة روفائيل الطوخي في روما في القرن الثامن عشر.

2-    الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر.

3-    فترة النهضة فى عهد محمد على ـ بداية من القرن التاسع عشر.

4-     التعديلات الطقسية، خصوصاً في عهد البابا كيرلس الرابع (وحركة الطباعة مع وصول أول مطبعة لمحاولة طباعة الكتب الطقسية، ومحاولة توحيد الطقوس).

5-    كذلك الإضافات الطقسية بداية من النصف الأول من القرن العشرين في عهد البابا كيرلس الخامس وطباعة الكتب الطقسية بطريقة نقدية وكتابية (طبعات القمص عبد المسيح المسعودي البراموسي).


[1] O. H. E. Khs. Burmester, «The Canons of Gabril Ibn Turaik, LXX Patriarch of Alexandria (first series)», OCP, vol. I (1935).

[2] R. Taft, The Liturgy of the Hours in East and West (The origins of the Divine Office and its meaning for today), Collegeville, Minnesota (U. S. A.), The liturgical Press, 1986, p. 251.

أضف تعليق